top of page

30 نزيلا بمستعمرة الجذام بالعامرية شعارهم "اقترب ولا تخف"

  • صورة الكاتب: Bara Elkadr
    Bara Elkadr
  • 9 مايو 2018
  • 6 دقائق قراءة



"مستعمرة الجزام بالعامرية" .. هذا المسمى مرتبط في أذهان غالبية أهالي الإسكندرية بكثير من المخاوف والشائعات والخيالات المفزعة، والحديث عنها ملتبس بحكاوى عن مرضى مشوهي الملامح، جلودهم متساقطة وعظامهم مشوهه، ومعزولين عن الناس لخطورة انتقال العدوى للمخالطين أو المتعاملين معهم.

الواقع يثبت أن كل هذه الشائعات من نسج الخيال، ومصدرها هو تواتر الأحاديث المتوارثة والقصص المنقولة المزودة بأكاذيب، فالمستعمرة بلا أسوار، ونزلاء عنابرها لا يزيد عددهم عن 30 مريضا ، اختاروا طواعية البقاء فيها حتى ينالوا الرعاية المتوافرة لهم، وغير ممنوعين من الخروج أو التزاور مع أقاربهم وذويهم ومعارفهم والعودة إذا أرادوا إلى أماكنهم في المستعمرة.

وهذه الحقائق لم تصل إلى رجل الشارع، بينما يعرفها الأطباء المختصون في الأمراض الجلدية والأمراض المعدية والطب الوقائي، وتعود تلك الحقائق إلى عام 1984 حينما تم اكتشاف العلاج النوعي الفعال لبكتريا الجزام، فجميع المرضى الموجودين بالمستعمرة حالياً متعافين تماماً من المرض، وما تبقى لهم فقط هي آثار مضاعفات تركتها الإصابة بالبكتريا، نظراً لتأخرهم في تلقي العلاج بسبب الجهل بأعراضه، أو الإهمال في التوجه إلى أقرب مركز طبي، حيث أن الشفاء من المرض يبدأ تدريجيا مع تلقي أول جرعة علاج.

باب حديدي

أمام الباب الحديدي وقفت طويلاً انتظر تلبية طلبي الالتقاء بالمدير أو المسئول عن مستعمرة الجذام بالعامرية على مساحة نائية ( 40 فدانا ) بالقرب من منطقة زاوية عبد القادرأقصى غرب الإسكندرية، وبعد أن نصحني بحزم مشرف البوابة بعدم الدخول للعنابر وعدم تجاوز منطقة الاستقبال، تطوع أحد الإداريين قائلاً:" المدير هو طبيب أمراض جلدية ولا يأتي إلا مرتين في الأسبوع، وأخبرني أنه هو نفسه كان مصاباً بالمرض وتم علاجه وتم تعيينه بالمستعمرة ضمن نسبة الـ 5% معاقين، ونصحني بألا أحاول التحدث مع اى طبيب بداخل المستعمرة، إلا بتصريح من وزارة الصحة ومرافقة مندوب من الوزارة، لكنه تطوع بالإجابة عن الاستفسارات البسيطة قائلاً " إن هناك 4 أطباء من تخصصات مختلفة يترددون على المرضى بعد أن تناقصت أعدادهم من 800 مريضا إلى 30 فقط، وهم أطباء أسنان وأنف وأذن وصيدلي بالإضافة إلى المدير وهو تخصص أمراض جلدية، والبقية موظفين وإداريين".

37 سنة عزلة !

عم كمال حسين (68 سنة) أحد نزلاء مستعمرة الجذام بالعامرية كان يقف بالقرب من باب أحد العنابر مترددا في الحديث معي ، تشجع عندما اقتربت منه ، وبدأ الحديث واثقا معرفا نفسه بإنه هو أحد ضحايا المرض اللعين، الذي أصابه في شبابه، حيث كان يقيم في محافظة سوهاج ويعمل سائقاً درجة أولى، وكان لديه أرض ورثها عن والديه ولكنه، كما يحكي بألم، اكتشف فجأة ظهور بقع بيضاء في مناطق متفرقة من جسده والتهابات شديدة تطورت لقروح، وعندما توجه للمستشفى أخبره الأطباء بأنه يعاني من مرض الجزام ولم يكن يعلم عنه شيئاً، يقول الحاج كمال إن هذا المرض كان كالوباء عندما أصابه منذ 37 سنة، فقد تدهورت حالته واضطر إلى بيع أرضه وبيته في سوهاج، وأحضر أسرته إلى الإسكندرية؛ حيث يقيمون من يومها في قرية أبيس حتى الآن، بينما هو يتردد عليهم من فترة لأخرى، ويحكى عم كمال - بتأثر بالغ - رحلته الطويلة مع المرض؛ حيث يقول:" كان عندي أهل وعيلة في سوهاج تركتهم وعشت معزولاً عن الناس لفترة طويلة، وترك المرض آثاراً على جسدي وملامحي وتآكلت عدة أصابع من يدي، ولكن الحمد لله زوجتي أم عيالي لم يصبها المرض، وكذلك عيالي "عندي 7 كبار" ومتزوجين، وبناتي زي القمرات الحمد لله، تزوجن جميعاً وهن لا يعانين من المرض، وكان عندهم مخاوف في البداية ولكن الدكاترة طمنوهم، ويشير كمال إلى أن العلاج تقدم كثيراً الآن، ولكن استمراره في البقاء في المستعمرة كان نتيجة المضاعفات التي حدثت له في بدايات إصابته بالجزام، ثم بعد ذلك اعتاد على الإقامة في المستعمرة حيث يجد الرعاية المجانية، وعن إقامته المتواصلة بالمستعمرة يقول:" الحمد لله المسئولون في المستعمرة يتعاملون معنا مثل الأخوة، ويقدمون لنا وجبات جيدة ومغذية ومقننة "3 أيام لحمة و4 أيام فراخ" ، ولكن عم كمال كان مصراً على أن المرض إصابة بسبب "الزعل" والتعب النفسي، ويؤكد أن مرضه غير معدٍ ، بدليل أنه يذهب إلى أسرته وزوجته في أبيس كل فترة ويقيم معهم عدة أيام ويختلطون به، ولم تظهر على أي منهم إصابات بالمرض "الحمد لله".

أما الحاج صلاح محمد الذي تداخل معنا في الحديث وهو أحد مرضى الجذام من المقيمين بالمستعمرة ، فتحدث بحماس مطالبا أن يصل صوته إلى المسئولين عن المستعمرة ووزارة الصحة بعد أن هجر المستعمرة معظم نزلاؤها، شاخت وتدهورت أحوالها ، والمباني تآكلت مثل المصابين بالمرض، ولا أحد يهتم بصيانتها أو نظافتها، "مثلما كان الحال زمان"، ويقول : "أنا مقيم هنا في المستعمرة منذ 50 سنة وعمري الآن يقترب من السبعين، لم أخرج إلا مرة واحدة فقط، ووجدت الناس يتعاملون معي بخوف وفزع فقررت العودة إلى المستعمرة ومن يومها لم أفكر في الخروج، ويضيف الحاج صلاح أنا أعمل في المزرعة التابعة للمستعمرة ونحصد ما نزرعه، ففي المساحة الخلفية للمباني أراضي زراعية تتبعها حوالي40 فداناً، ولكن شكوانا هي الإهمال فالمياه تنقطع فترات كثيرة وكذلك الكهرباء، ونعتمد في الشرب على خزان مياه غير نظيف ولا أحد يهتم بنا بعد أن تناقصت أعداد النزلاء من 800 مريض إلى حوالي 30 مقيماً فقط ؛ كلهم من كبار السن الذين عصف بحياتهم المرض اللعين في سن مبكرة، وعلى عكس عم كمال فالحاج صلاح ليس له أسرة لأنه لم يتزوج ويعيش معزولاً عن المجتمع وكل حياته عاشها في المستعمرة مع زملائه من المرضى والإداريين والأطباء ولا يعرف أحدا غيرهم.

تشوهات

الدكتور عبد العال الكمشوشي أستاذ الأمراض الجلدية بكلية الطب يقول إن الجزام مرض يصيب الجلد ويسببه ميكروب "باسيل الجزام"، وطرق العدوى قد تكون تنفسية أو بمخالطة المصاب في حالة عدم تلقيه العلاج، ومن أعراض المرض ظهور بقع أو ارتشاحات جلدية فاقدة الإحساس ، تؤدي إلى تأثر الأعصاب الطرفية بالبيدين والقدمين والوجه، وينتج عنها فقدان الوظائف الحسية والحركية.

ويضيف الكمشوشي أن الاكتشاف والتشخيص المبكر للمرض يجنب المريض كثيراً من تلك المضاعفات التي تترك ما يسمى وصمة صحية واجتماعية وآثاراً نفسية طوال الحياة.

وعن التشوهات التي يتركها المرض على المصاب يقول استشاري الأمراض الجلدية أن المصاب بالمرض يتعافى تماماً في حالة التشخيص والاكتشاف المبكر، حيث يتم علاجه بالعلاج متعدد العقاقير في المدة المحددة التي تمتد إلى (من 6 إلى 12 شهراً) بطريقة منتظمة ومقننة حسب نوع الجذام، ويوضح أن في حالة تأخر العلاج أو الإهمال في التشخيص فقد تحدث تشوهات في الوجه ومشكلات متعددة بالعينين قد تصل إلى فقدان البصر، وفقدان الإحساس باليدين أو القدمين والتواء بالأصابع وقرح مزمنة ومتكررة قد تصل في الحالات الحرجة إلى بتر في أجزاء من اليدين أو القدمين، وذلك بسبب غزو ميكروبات أخرى للقرح والارتشاحات الجلدية، بالإضافة إلى المضاعفات النفسية والاجتماعية للمريض والمحيطين به.

600 حالة

ويوضح د. الكمشوشي أن إحصاءات وزارة الصحة تؤكد انخفاض أعداد المصابين بالجذام في تناقص منذ عام 2013 ، حيث بلغت في مصر أقل من 600 حالة كإصابات جديدة، أما الأعداد القديمة فهي لا تعتبر حالات مرضية، فهم قد تم شفاؤهم من المرض، وما يعانون منه هي مضاعفات المرض القديمة ، و95% منهم من كبار السن الذين أصيبوا بالمرض قبل اكتشاف العلاج النوعي له أو ممن أهملوا أو تأخروا في تلقي العلاج ويعانون من مضاعفاته، ولا يعدون مرضى جذام.

ويشير استشاري الجلدية إلى أن للجذام أنواع متعددة معظمها غير معدية، وحتى الحالات المعدية تتحول إلى غير معدية بعد أسبوعين فقط من الانتظام في العلاج، مما يعني أن المرض القدامى الذين أكملوا مدة العلاج المحددة لا خطورة من التعامل معهم، ولهذا فإن التشخيص المبكر والاكتشاف للمرض في بداياته هو الوسيلة الفعالة لمحاصرة مخاطر العدوى والقضاء تماماً على مرض الجزام الذي بدأ يختفي من العالم.

قاعدة بيانات

أما الدكتور شيت أحمد شيت مدير إدارة الأمراض المعدية بمديرية الصحة بالإسكندرية فيقول إن وزارة الصحة في مصر والمديريات التابعة لها بدأت منذ 1979 في برنامج مكافحة مرض الجزام، وتطبيق النظم الحديثة لتسجيل قاعدة بيانات عن المصابين بالمرض والمتعافين منه، وذلك بالتنسيق مع عدة هيئات دولية معنية بمكافحة المرض.

ويضيف د. شيت أنه في عام 1994 حققت مصر النسبة التي حددتها منظمة الصحة العالمية للقضاء على الجزام وهي انخفاض معدل الانتشار وتراجع الإصابات على أقل من حالة إصابة لكل 10آلاف مواطن ، وهي النسبة العالمية وقتئذ، وكانت مصر من أوائل الدول التي حققت هذه النسبة ومنذ هذا التاريخ ومعدل الإصابات بالمرض في مصر في تناقص مستمر..

وأوضح أن هناك برامج تأهيل طبي واجتماعي للمرض الذين تأثروا بمضاعفات المرض من إعاقات عضوية ونفسية، ويعترف د. شيت أن هذه البرامج المؤهلة للمصابين القدامى ، ممن يعانون من المضاعفات، تتضمن مساعدات فقيرة للغاية وأن هؤلاء المرضى وهم قليلو العدد يحتاجون إلى تضامن الجهود من مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية لمعاونتهم ورعايتهم وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم وإعادة تأهيلهم للاندماج في المجتمع.

مستعمرات

ويشرح دكتور شيت أن مصر بها مستعمرتين فقط لمرضى الجذام تم إنشاؤهما منذ سنوات بعيدة قبل اكتشاف العلاج الشافي من المرض، الأولي في منطقة أبي زعبل بمحافظة القليوبية وإنشئت في عام 1933 والثانية بالعامرية وكانت منطقة نائية وقتها وأنشئت في عام 1948، وكان الغرض من المستعمرتين واحد وهو عزل مرض الجزام، وذلك لعدم وجود علاج فعال للمرض، ولكن حالياً ومنذ عام 1984 وحتى الآن فلا يوجد أى مبرر لعزل مريض الجزام كما كان متبعاً في الماضي، بعد اكتشاف العلاج الحديث، وهو الأمر الذي لا يدركه غالبية المواطنين من عامة الشعب، حيث لا تزال في أذهان الغالبية صورة غير حقيقية عن المرض ومخاوف خيالية من هواجس العدوى والتدمير الذي يصيب المريض، فالعلاج الآن متوافر في أكثر من 18 مركزاً طبياً في مختلف المحافظات بالمجان، بالإضافة إلى الرعاية الطبية للمرضى التي لا تزال تقدم لهم في المستعمرتين بأبي زعبل والعامرية، ويرد د. شيت عن أسباب التدهور الإنشائي والبيئي لمستعمرة الجزام بالعامرية قائلاً إن وزارة الصحة لديها خطة لإعادة هيكلة المستعمرة وتحسين مبانيها والعناية بها، بعد أن اختلف دورها في الوقت الراهن، من مكان معزول محظور زيارته إلى مركز علاجي لبعض الحالات الجديدة التي تحتاج إلى رعاية خاصة بسبب تفاعلات الجذام الشديدة، أو الحالات الحرجة التي في حاجة فورية لإجراء عمليات جراحية في تخصصات الجراحة العامة أو التقويمية أو العيون أو علاج التشوهات، وكذلك العناية بالقرح المزمنة والعلاج الطبيعي بالإضافة إلى التأهيل الطبي والاجتماعي للمرضى المعاقين لإعادة دمجهم في المجتمع.

وقال إمرض الجزام يعتمد في عدواه على ضعف المناعة فالميكروب ينتشر فقط في الأماكن الفقيرة والبيئة غير النظيفة المصاحبة للفقر، وان النزلاء المتبقين هنا في المستعمرة جميعهم ممن تجاوزت أعمارهم الستين والسبعين عاماً وتأثرت أجسامهم بمضاعفات المرض.

مستعمرة الجزام بالعامرية مثلها مثل كل المستشفيات الحكومية والمنظومة الصحية في مصر، تحتاج إلى إعادة تأهيل ورفع كفاءة ومحاسبة دقيقة في أوجه انفاق المساعدات التي تصل إليها من مؤسسات خيرية مصرية وأجنبية، ورصد لأى من مظاهر الإهمال أو التسيب، وعدم غلق الأبواب أمام تداول المعلومات بشأنها من خلال إحصاءات دقيقة ورؤية واقعية ومتابعة ميدانية تضع الحقائق أولاً بأول أمام الرأى العام والأجهزة الرقابية.

Comentarios


ليه بره الكادر؟

عشان فيه ناس كتير مهمشين, ملهمش صوت و واقفين بره الكادر, إحنا بنحاول ندخلهم في الصورة معانا.. عشان صورة الوطن تكمل

  : تواصل معنا علي
!..شاركنا بأفكارك

 

Email: baraelkaddr@gmail.com

​​​

bottom of page